مصر فى ثورة

مصر فى ثورة

الجمعة، ٢٠ مارس ٢٠٠٩

خاطرة


معاناتى مع كتاباتى .. أزمـة جيـل

(1) ـ

عانيت على مر الشهور الماضية أثناء كتاباتى من محاولة توصيف واختصار وتوثيق المعلومات عند الكتابة فى ملفات الشأن السياسى الخارجى مثل قضية غزة وتركيا والسودان والعراق .. والمعاناة كان منبعها شيئين .. الأول : الخوف من الافراط أوالتفريط فى التناول , والثاني : محاولة مراعاة مشاعر كارهى القراءة الذين يبحثون عن المعلومة السريعة ويكتفون بقراءة العنوان ومشاهدة الصور

العنصر الثانى هو أشد ما يؤلمنى خاصة حين لا يجد هذا النوع حرجاً فى كتابة التعليقات التى توحى بعمق كتاباتى وبعد نظرتى ونفاذ بصيرتى , وهى كلها ـ أى التعليقات ـ تدخل تحت تصنيف : " المجاملات الاعلانية " ليس الا ... وكل انسان أدرى بنفسه , والمغبون من صدق كذب الناس عن نفسه ...ـ

وكم قابلنى كثير من الاصدقاء من يثنى على مقال لى أو خاطرة ثم اذا سألته هل قرأت المقال يقول : لا , فقط ألقيت نظرة.. وهو شيئ أحسده عليهم .. لأننى لا أملك تلك النظرة الاعجازية


أمر مدهش آخر أعانى منه كما يعانى كثيرون .. ذلك أننى عندما تابعت التعليقات من الناحية الكمية ( العددية ) منذ أنشأت المدونة الى الآن وجدت أن أقل التعليقات تكون فى المقالات السياسية والفكرية الطويلة منها والمتوسطة وكثير من هذه التعليقات القليلة تكون من النوعية سابقة الذكر .. والعجب أن ترى عشرات التعليقات على موضوعات أقل أهمية وربما أكثر سطحية , والأمثلة كثيرة على ذلك فى كل المدونات على السواء


ولم تفلح كثير من محاولاتى فى التأثير الوجدانى على بعض أصدقائى لحثهم على القراءة والصبر عليها , وقد كنت اظن أن الأحداث المتسارعة من حولنا ستجعل منهم أناساً أكثر حرصاً على المعرفة وتدفعهم الى البحث دفعاً , لكن الأمر كان أعمق من هذا التصور

ولأننا كنا كذلك .. " كَذلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ " , فان المحاولات مستمرة حتى تعود العقول حرة ,, ولا أدعى بذلك المعرفة , فكلما زاد علمك زاد جهلك .. انما أتحدث عن الاهتمام والبحث والسعى للمعرفة وهى أمور بسيطة , كفيلة بأن تجعل الفرد منا فى مستوى مقبول من الثقافة ومجاراة الأحداث المحيطة

(2) ـ

هل نحن بصدد أمية فكرية جديدة ؟؟ .. فى مقال رائع بعنوان" الأمية الفكرية " للشيخ عبدالله نافع الدعجانى .. أعجبنى ذلك المقطع الذى قال فيه

" انفلقت بيضة الحضارات البشرية عن كبرى حقائقها القائلة " إن الدواة والقلم وسيلتان لتطهير صداءة الأذهان, وإزالة جهالة العقول, وتحرير النفوس من أغلال وآسار الأمية العمياء " .. ولذلك احتضنت الحضارة الإسلامية تلك الحقيقة وأيَّدتها , وجعلتها منحة ومنّة لا غنى للإنسان عن شكر وحمد من وهبها , قال تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .. غير أنه لا يمكن أن تكتمل حرية الإنسان وكرامته بمجرد تلك الوسيلة الحضارية , فإذا لم يكن للقلم أثر في نضج عقل صاحبه , وعمق نظره , واتساع رقعة فكره الإدراكية , فليس هناك حاجة حضارية تدعو إلى التحلي به , إلا إذا قدر على تحرير الإنسان من أميته الفكرية , كما استطاع أن يحطم أغلال أميته التقليدية الأبجدية , إذ ما فائدة تحقيق الوسيلة الحضارية [ تعلم القراءة والكتابة ] دون تحقيق هدفها النبيل [ النضج الفكري ] ؟! " ـ

(3)ـ

أحسست بشيئ من المبالغة عندما قرأت احصائية تقول أن نسبة القراءة عند الشاب العربى 6 دقائق فى السنة فى حين هى 36 ساعة عند الشاب الغربى .. وكلاهما مصيبة

بيد أننى أعتقد أن النسبة ترتفع عند الشباب المهتمين بالسياسة سواء فى الحركات الشعبية والاسلامية أو الأحزاب بالاضافة الى بعض افراد الجماعات التى تهتم بالعلم الشرعى ( الدينى ) ـ


وكعادتى .. حاولت أن أبحث فى الأصول النفسية والدوافع الانسانية لهذه الظاهرة ـ فى محاولة لمعالجة الجذور ـ فوجدت تحليلات عدة , وكلها تحتاج الى تفصيل خاص ودراسة متأنية .. لكنها اشتركت فى نقطة مهمة وهى أن : ـ

ــ " القراءة عادة متمكنة داخل الإنسان تنشأ من الداخل مثل عادة تفريش الأسنان أو لبس معين أو لهجة معينة أو أكلة معينة .. لذلك تجد أن من الناس من يقرأ بنهم ويستمتع بالقراءة ومن الناس من يجاهد نفسه على القراءة وربما بدأ بكتاب أو اثنين ولم ينهه , ومنهم من يكره القراءة .. وبالتالى تلعب الدرجة الثقافية للأسرة دورا رئيسيا في وعي الأبناء وطريقة تفكيرهم " ـ

على أية حال يبقى المرء مندهشاً من أننا وصلنا الى درجة مناقشة أسباب ضعف الثقافة والأمية الفكرية , فى حين أنه كان من الأولى أن نناقش مشكلة القراءة السطحية والغير عميقة وغياب النقد البناء والتحليل العميق وقراءة ما وراء الحدث ,, لكن الذى هدم فى سنين لن يبنى فى يوم ومالا يدرك كله لا يترك جله .. ولا يحق لنا أن نشكو ضعف الثقافة طالما لا نصبر على القراءة


والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل


الخميس، ١٢ مارس ٢٠٠٩

الجمعة، ٦ مارس ٢٠٠٩

اعتقال البشير .. للعدالة نصف وجه

لسنا بصدد مناقشة هل يستحق البشير ذلك أم لا .. وهل له جرائم فعلاً أم لا , لكن الوجه الآخر لقرار محكمة الجنايات الدولية بقيادة المدعى العام لويس اوكامبو الأرجنتينى , ضد الرئيس السودانى العميد عمر البشير يحتاج الى وقفة
(1)

لماذا هكذا دائماً العرب دماؤهم وأعراضهم وحكامهم مستباحة ؟؟ ولماذا لا نرى أثر تلك العدالة الدولية المزعومة الا على العرب والمسلمين ؟؟ ثم لماذا يسكت العرب والمسلمون طوال هذه العقود الطويلة على استباحة ساحتهم ؟؟ لماذا ولماذا ولماذا ... ؟ , تبدو الأسئلة ساذجة والاجابات منطقية
فى خلال 5 سنوات ماضية قتلت أمريكا الرئيس العراقى صدام حسين اعداماً , وقتلت الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات سماً , ثم قرار اعتقال البشير رئيس السودان الحالى , وفى خلال نفس السنوات الخمسة أيضاً تم تبرئة الرئيس اليوغسلافى الصربى ميلوزوفيتش من جرائم حرب انسانية ضد مسلمى البوسنة فى التسعينات
ولم نر محاكمة لباراك ونتينياهو وموفاز وشارون واولمرت أو لكلينتون وبوش وتشينى وبلير أو لبوتين ويلستين وشرودر وبيرلسكونى

رغم أن جرائمهم فى فلسطين والعراق وأفغانستان والبوسنة وكشمير والشيشان كانت ولا تزال على الهواء مباشرة

(2)

على جانب آخر لا يستطيع المرء اخفاء اندهاشه من مبررات الحكم الصادر من الجنائية الدولية ضد البشير اذ نصت على أن " البشير كان العقل المدبر لجرائم دارفور " , ذكرنى ذلك بالاتهامات التى تستهدف ( النوايا والفكر) التى توجه لكوادر التيار الاسلامى فى بلادنا العربية اذ تكون التهم : (اعتناق) أفكار هدامة ومحظورة , و(التفكير) فى قلب نظام الحكم , و(الترويج) لأفكار التنظيم , و(اعتزام) القيام بأعمال عنف
ونحن بصددنا نتساءل اذا كانت الامور تقاس بهذا المنطق فى العالم الغربى المتحد علينا
فمن العقل المدبر لجرائم أمريكا فى العراق وأفغانستان ؟ـ
ومن العقل المدبر لجرائم اسرائيل فى فلسطين ؟ـ
ومن العقل المدبر لجرائم الهند فى كشمير ؟ـ
ومن العقل المدبر لجرائم روسيا فى الشيشان ؟ـ
ومن العقل المدبر لجرائم الهندوس ضد مسلمى الهند وأندونسيا ؟ـ
ومن العقل المدبر لجرائم الصرب ضد مسلمى البوسنة والهرسك ؟ـ
بل من العقل المدبر لجرائم أمريكا النووية فى اليابان ؟ـ
فليجيب اذن السيد المدعى العام أوكامبو العظيم عن هذه الأسئلة .. أعتقد أنه سيصل الى اجابة مقنعة له على طريقة ( العقل المدبر) وسيخرج علينا قائلاً : العقل المدبر لكل ماسبق هو الشيطان !!!!!ـ
ولا أراكم الله مكروهاً فى عزيز لديكم
(3)

السودان على مدار الزمن مستهدف أمريكى صهيونى .. دولة مساحتها 2.5 مليون كم مربع وعدد سكانها 40 مليون نسمة, وتتحكم فى منابع نهر النيل والمصدر الأول للنفط للصين , وبها كميات هائلة من اليورانيوم فى دارفور , وتعلن حكومتها احترامها للشريعة الاسلامية ( بغض النظر عن التطبيق) .. ماذا تتوقع اذن أن يفعل بها ؟! ـ

يفعل بها الآتى : حملات تنصير مستمرة بها يقودها الاتحاد الأوروبى تحت غطاء منظمات دولية لحقوق الانسان ومنظمات اغاثية , تسليح اسرائيلى لأعداد كبيرة من المتمردين فى الجنوب وحثهم على الانفصال , زرع أمريكا للعملاء المكشوفين أمثال جون جارانج وسلفا كير وأتباعه , زرع متمردين فى غرب السودان ( دارفور) للمطالبة بالانفصال عن السودان , ............... وما خفى كان أعظم

ولا حول ولاقوة الا بالله

الأربعاء، ٤ مارس ٢٠٠٩

المشهد الفلسطينى بين خطاب اليأس والامل


أمام هذا المشهد الجديد القديم يظل المرء مندهشا وفى حيرة بين الافراط فى التفاؤل وبين التعلم من التاريخ اليائس ,, ابتسامات عريضة وتصريحات اعلامية بعد مؤتمر المصالحة الفلسطينية فى القاهرة ثم ابتسامات أعرض وتصريحات أعمق فى مؤتمر اعادة اعمار غزة بشرم الشيخ , وفى كلتا الحالتين نقف متسائلين : ماذا سيقدم العالم الى غزة ؟؟ طعام أم سم ؟؟ ـ

(1) ـ
ندرك جميعاً مع تجاهلنا المقصود أن الخلاف بين فتح ليس خلافاً سياسياً فقط بل يمتد الى خلاف عقائدى ومنهجى فى وجهتين متناقضتين .. حماس مثلاً تدرك بطبيعتها الاسلامية الشاملة أن قبول حل الدولتين على حدود 67 هو خطوة ومرحلة انتقالية فى طريق التحرير الشامل والكامل , فى حين تعتبر فتح هذا الحل منتهى آمالها وطوحاتها
كما تدرك حماس جيداً أن المشكلة ليست فى عباس ودحلان وعبد ربه فقط , فهم لم يخترعوا مشروع التسوية بقدر ما هم منفذون أساسيون له بالدرجة الأولى فهم بذلك وسيلة ليس الا , ولن يستطيعوا العودة بالزمان الى الوراء لاصلاح ما فعله ( عرفات ـ عباس ـ قريع ) المحور الأساسى فى اتفاق أوسلو المشين
وبالتالى فان الصورة الوردية التى ظهر عليها مؤتمر المصالحة الأخير يثير توجساً وقلقاً بالغاً , ذلك أن هناك أطرافاً داخل فتح لا تريد حواراً ولا مصالحة ولا حتى تسوية وقد دلل الاستاذ هويدى فى مقاله الثلاثاء الماضى على ذلك بالقول انه قبل المؤتمر وأثنائه وبعده لم تتوقف اعتقالات فتح لأنصار حماس بالضفة الغربية , فى رسالة واضحة من التيار الفتحاوى الأشد تأثيراً ـ
(2)ـ
كثرة التحالفات الموجهة ضد المقاومة , مبعث آخر على القلق .. فلا يستطيع أحد أن ينكر أطراف المعادلة التآمرية بحيث يصعب على الواحد منا تجاهلهم فى المشهد الأخير وهم (مصر ـ اسرائيل ـ المجتمع الدولى ـ فتح ـ عملاء غزة) , فأصبح معلوماُ بالضرورة وبالبيان وبالأدلة أن مصر مثلاً لا تقف على مسافة واحدة من الأطراف الفلسطينية وقد أشرت الى جزء من هذه المؤامرة فى مقال سابق لى بعنوان : (نظرية الدبلوماسية الجبرية .. حماس نموذجا) , كما أن حرب غزة الأخيرة خير شاهد ... ثم يصعب تجاهل اسرائيل كطرف صعب لدرجة أن مؤتمر اعادة اعمار غزة الأخير لفت النظر الى ضرورة فتح اسرائيل لجميع معابرها مع غزة لكى تتم عملية الاعمار بشكل منتظم وطبيعى فى حين لم يذكر أحداً معبر رفح بكلمة واحدة , بما يعنى اشراك اسرائيل طرفاً أساسياً فى عملية الاعمار وهو ما يمثل التفاتاً حول النوايا الحقيقية , والشاهد على ذلك أنه أثناء انعقاد المؤتمر حذرت حماس من توظيف المؤتمر الاقتصادى للاعمار سياسياً سواء بالضغط أو الابتزاز ليصبح مؤتمراً للاستعمار لا للاعمار
فى حين أن اخراج حماس كشريك فى الاعمار جاء مقصودا فضلاً عن عملية التلقيح السياسى حول الحركة ومواقفها والتى بانت فى تصريحات ساركوزى حين قال : يجب على حماس اتخاذ مواقف ( محترمة ) ـ
(3) ـ
يستطيع كل منا أن يجمع كل الأطراف والعناصر السابقة المتشابكة بحيث يوقن أن المؤتمرات الأخيرة مسكنات مرحلية وليست علاجاً , وهو موقف تستحق حماس فيه اشادة بطول النفس والتحرك وفق مرحليات مدروسة , وهى تعلم أن تاريخاً لا ينسى من المؤتمرات والمعاهدات والمصالحات آخرها مؤتمر مكة المكرمة واتفاقيته بتشكيل حكومة وحدة وطنية , وهو المؤتمر الذى كبر وهلل العالم له حينها , فى حين أن الأطراف الفلسطينية خاضوه بمبدأ ( مجبر أخال لا بطل ) , ثم بعد شهور قليلة ظهرت الحقيقة وتبخرت الأحلام , ولم يعد أحد يذكر المؤتمر ولا مكة ...ـ
والله المستعان

الأحد، ١ مارس ٢٠٠٩

المقال الثالث : استنساخ تجربة أردوغان


فى هذا المقال يطل د/ رفيق حبيب ـ المحلل السياسى القبطى ـ بنظرة تحليلية جديدة للمشهد التركى , لم يفكر أحد تفكير جدى بهذا الأمر الذى طرحه .. فهو اذ ينفى عن حزب العدالة والتنمية صفة (الحزب الاسلامى) , ويرفض استنساخ التجربة بكاملها .. الا انه يتبنى دعوة صريحة للتفكير فى مرحلة مشابهة لمرحلة الحزب التركى الانتقالية بعد تحليل عميق لظروفنا السياسية فى مصر .. على أية حال المقال يأتى فى سياق جديد و(تجديدى) بنظرة مختلفة للأمور ويتزامن مع توحد بعض القوى السياسية المصرية فى ائتلاف معارض جديد

*****************************************************

استنساخ تجربة أردوغان

بقلم : د./ رفيق حبيب


تدور الكثير من الحوارات حول إمكانية تكرار تجربة حزب العدالة والتنمية التركي في البلاد العربية والإسلامية. والبعض يتصور أن هذه التجربة تمثل مثلا أو نموذجا يمكن تكراره، أو حتى يجب تكراره. والبعض الآخر يرى أن هذه التجربة مرتبطة أساسا بالظروف السائدة في تركيا. كما يرى البعض، أن حزب العدالة والتنمية التركي يمثل النموذج العصري المناسب للحركات والأحزاب الإسلامية، والبعض الآخر يرى أنه لا يمثل حزبا إسلاميا، ولا يمكن أن يكون نموذجا للحركات الإسلامية. والغالب هو النظر لتجربة حزب العدالة والتنمية على أنها نموذج محدد، إما يقبل كما هو أو يرفض بالكامل. ولكن الأمر يحتاج إلى نوع آخر من النظر، وهو نظر إلى فكرة التجربة والعوامل الرئيسة فيها، بصورة تمكن من معرفة ما يمكن تعلمه من هذه التجربة ... والحقيقة أن أفضل تناول لتجربة حزب العدالة والتنمية، يتعلق أساسا بدلالة التجربة داخل سياقها، مما يمكن من فهم فكرتها، والتعلم منها. وفي كل الحالات، فإن تجربة حزب العدالة والتنمية تمثل تجربة ديمقراطية ناجحة، من حيث قدرتها على حشد التأييد الجماهيري لها. وهي أيضا تجربة ناجحة في العديد من مستويات إدارة الحكم، حيث حققت عددا من الانجازات، خاصة في المجال الاقتصادي . ويضاف لهذا أن تجربة حزب العدالة والتنمية، مثلت شكلا للحكم يتفاعل بصورة مباشرة مع موقف الشارع السياسي ويعبر عنه، مما جعلها تجربة في الحكم تستند أساسا على الدعم الجماهيري، وتستمد شرعيتها من هذا الدعم


وحزب العدالة والتنمية يمثل حزبا علمانيا محافظا، كما حدد هويته مؤسسيه. وهو بهذا ليس حزبا إسلاميا، حيث نفى مؤسسوه عنه هذه الصفة، ولم يحاولوا إلصاق هذه الصفة به ولو ضمنيا . ويلاحظ أن كل الأحزاب الإسلامية في تركيا لم تكن تستخدم تعبير حزب إسلامي، حيث أن هذا التعبير ممنوع قانونا، ولكنها كانت تستخدم تعبيرات تشير ضمنيا إلى الهوية الإسلامية ، وأهمها التعبير الذي كان يستخدمه القائد الأبرز لإسلامي تركيا، وهو الأستاذ نجم الدين أربكان، حيث كان يشير إلى رؤيته السياسة باسم النظام العادل، كناية عن النظام الإسلامي. ولكن نجم الدين أربكان لم يقل على أي حزب أسسه بأنه حزب علماني، وإن أكد على حفاظه على الدستور والقانون بالطبع، كشأن أي حزب سياسي. أي أن الأحزاب التي شكلها نجم الدين أربكان، كانت أحزاب إسلامية، أسسها إسلاميون، وقبلت العمل في ظل النظام العلماني. أما حزب العدالة والتنمية الذي أسسه رجب طيب أردوغان، فهو حزب علماني محافظ، أسسه إسلاميون. وتلك قضية مهمة، فالحزب ليس إسلاميا، ولكن مؤسسيه من الإسلاميين


ويمكن فهم ما أراده رجب طيب أردوغان وصحبه من تجربتهم ، من المقارنة بينهم وبين أستاذهم .. فنجم الدين أربكان أراد تأسيس حزب إسلامي في نظام علماني ، ولكن النظام التركي يعطي حق للجيش للتدخل لحماية العلمانية، لذلك تدخل الجيش والمحكمة العليا، لحل الأحزاب التي أسسها نجم الدين أربكان. ومن هنا جاءت فكرة حزب العدالة والتنمية، حيث أراد مؤسسوه، تشكيل حزب علماني لا يعادي الدين، ويقف ضد العلمانية المتطرفة،ويحافظ على التقاليد الاجتماعية، أي حزب علماني ولكن محافظ. والسبب في ذلك، هو محاولة تأسيس مشروع سياسي يقوم بعملية تغيير شروط وقواعد العملية السياسية في تركيا ، بأن يؤسس للديمقراطية الحقيقية والتي تسمح للجميع بالعمل السياسي، ويمنع تدخل الجيش في السياسة، ويقاوم الفساد والنخب المهيمنة على الحكم، ويحسن من الأحوال الاقتصادية والمعيشية , فإذا نجح في ذلك، يكون قد بدأ عهدا ديمقراطيا حقيقية في تركيا، وأنهى الاستبداد العلماني الذي يحميه الجيش ,, ولأن تركيا فيها حرية تأسيس أحزاب وانتخابات حرة، كما أنها تريد الالتحاق بالاتحاد الأوروبي وبالتالي عليها الالتزام بمعاييره في حقوق الإنسان والديمقراطية، لذا أصبح هناك مجالا أمام حزب العدالة والتنمية، ليقوم بتجربته.. وقد أيدت الجماهير الإسلامية في تركيا حزب العدالة والتنمية، على أساس أنه قادر على تحقيق مشروعه ومواجهة سلطة الجيش والحد منها


لهذا نرى أن حزب العدالة والتنمية لم يؤسس لتحقيق المشروع الإسلامي ، ولكن لتحسين شروط العملية السياسية وتطوير الأوضاع الداخلية، بحيث تصبح تركيا دولة ديمقراطية حقا، مما يمكن أي حزب في المستقبل من الوصول للحكم، دون أي تدخل من الجيش. وبما أن حزب العدالة والتنمية قد أسسه إسلاميون، لذا يفترض أن هذا الحزب يريد تأسيس ديمقراطية، تسمح في المستقبل بحرية العمل لكل الأحزاب بما فيها الأحزاب الإسلامية. وبهذا يكون حزب العدالة والتنمية، يمثل خطة مرحلية تبناها إسلاميون، بغرض تغيير شروط العملية السياسية ، مما يتيح لهم بعد ذلك الدخول في مرحلة تالية، تسمح لهم بتقديم مشروعهم الإسلامي. ولكن إذا اعتبر مؤسسو حزب العدالة والتنمية، أن النسخة الحالية من الحزب هي مشروعهم النهائي، عندئذ نقول بأن مؤسسو الحزب قد تحولوا من الفكرة الإسلامية،إلى الفكرة العلمانية المحافظة، وبهذا سيقول عنهم التاريخ بأنهم إسلاميين سابقين. والغالب حتى الآن، أن برنامج حزب العدالة والتنمية هو مرحلة انتقالية، تنقل تركيا من الديمقراطية التي يسيطر عليها الجيش إلى الديمقراطية الكاملة، وهو بهذا يقوم على المراحل المتتالية، وما يظهر منه الآن، هو المرحلة الأولى


لذلك نرى أن تجربة حزب العدالة والتنمية، تمثل تجربة في كيفية إدارة المرحلة الانتقالية ، أو كيفية تأسيس مرحلة انتقالية ما بين ظروف تمنع عمل الحركات الإسلامية، وظروف أخرى منشودة تسمح للمشروع الإسلامي بالعمل , والتواجد مع غيره من المشروعات. ومن تجربة العدالة والتنمية، نعرف أن المراحل الانتقالية مهمة، وأن التحولات الكبرى تحتاج لمراحل انتقالية، حتى تمهد لها
لذا نرى أننا نحتاج في عالمنا العربي والإسلامي إلى صياغة رؤية عن مرحلة انتقالية يمكن اعتمادها في مواجهة الاستبداد والفساد، وتحقيق التحول الديمقراطي، مما يسمح لكل القوى السياسية بأن تتنافس بحرية بعد ذلك، ويختار الشعب حكامه من خلال انتخابات حرة ونزيهة. وهذه المرحلة الانتقالية تحتاج في الحالة المصرية، إلى نخبة وطنية غير حزبية، أو حزب يقوم على برنامج انتقالي، مع تأييد جماهيري واسع، ومساندة كل القوى والتيارات السياسية الفاعلة، وعلى رأسها الحركة الإسلامية، خاصة جماعة الإخوان المسلمين لتقوم هذه النخبة أو الحزب بمحاولة الضغط على الحكام من أجل تحسين أحوال الحياة السياسية وتحقيق الديمقراطية، وتقديم نفسها بديلا للنخبة الحاكمة. ونجاح المرحلة الانتقالية يعتمد على موقف النخبة الحاكمة وموقف الغرب الداعم لها، فإذا تغيرت الظروف وسمحت ببداية مرحلة انتقالية نحو الديمقراطية، سيمهد ذلك لتحقيق الإصلاح السياسي، ولكن إذا أصرت النخبة الحاكمة على بقائها في السلطة، وأصر الغرب المؤيد لها، خاصة أمريكا على بقائها في السلطة، عندئذ لن ينفع حل المرحلة الانتقالية، وسيصبح من الضروري الانتقال إلى عملية نزع الشرعية المزيفة عن الحكم القائم، لفرض الحرية والديمقراطية، بدعم جماهيري واسع