(1) ـ
عانيت على مر الشهور الماضية أثناء كتاباتى من محاولة توصيف واختصار وتوثيق المعلومات عند الكتابة فى ملفات الشأن السياسى الخارجى مثل قضية غزة وتركيا والسودان والعراق .. والمعاناة كان منبعها شيئين .. الأول : الخوف من الافراط أوالتفريط فى التناول , والثاني : محاولة مراعاة مشاعر كارهى القراءة الذين يبحثون عن المعلومة السريعة ويكتفون بقراءة العنوان ومشاهدة الصور
العنصر الثانى هو أشد ما يؤلمنى خاصة حين لا يجد هذا النوع حرجاً فى كتابة التعليقات التى توحى بعمق كتاباتى وبعد نظرتى ونفاذ بصيرتى , وهى كلها ـ أى التعليقات ـ تدخل تحت تصنيف : " المجاملات الاعلانية " ليس الا ... وكل انسان أدرى بنفسه , والمغبون من صدق كذب الناس عن نفسه ...ـ
وكم قابلنى كثير من الاصدقاء من يثنى على مقال لى أو خاطرة ثم اذا سألته هل قرأت المقال يقول : لا , فقط ألقيت نظرة.. وهو شيئ أحسده عليهم .. لأننى لا أملك تلك النظرة الاعجازية
أمر مدهش آخر أعانى منه كما يعانى كثيرون .. ذلك أننى عندما تابعت التعليقات من الناحية الكمية ( العددية ) منذ أنشأت المدونة الى الآن وجدت أن أقل التعليقات تكون فى المقالات السياسية والفكرية الطويلة منها والمتوسطة وكثير من هذه التعليقات القليلة تكون من النوعية سابقة الذكر .. والعجب أن ترى عشرات التعليقات على موضوعات أقل أهمية وربما أكثر سطحية , والأمثلة كثيرة على ذلك فى كل المدونات على السواء
ولم تفلح كثير من محاولاتى فى التأثير الوجدانى على بعض أصدقائى لحثهم على القراءة والصبر عليها , وقد كنت اظن أن الأحداث المتسارعة من حولنا ستجعل منهم أناساً أكثر حرصاً على المعرفة وتدفعهم الى البحث دفعاً , لكن الأمر كان أعمق من هذا التصور
ولأننا كنا كذلك .. " كَذلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ " , فان المحاولات مستمرة حتى تعود العقول حرة ,, ولا أدعى بذلك المعرفة , فكلما زاد علمك زاد جهلك .. انما أتحدث عن الاهتمام والبحث والسعى للمعرفة وهى أمور بسيطة , كفيلة بأن تجعل الفرد منا فى مستوى مقبول من الثقافة ومجاراة الأحداث المحيطة
(2) ـ
هل نحن بصدد أمية فكرية جديدة ؟؟ ..
" انفلقت بيضة الحضارات البشرية عن كبرى حقائقها القائلة " إن الدواة والقلم وسيلتان لتطهير صداءة الأذهان, وإزالة جهالة العقول, وتحرير النفوس من أغلال وآسار الأمية العمياء " .. ولذلك احتضنت الحضارة الإسلامية تلك الحقيقة وأيَّدتها , وجعلتها منحة ومنّة لا غنى للإنسان عن شكر وحمد من وهبها , قال تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .. غير أنه لا يمكن أن تكتمل حرية الإنسان وكرامته بمجرد تلك الوسيلة الحضارية , فإذا لم يكن للقلم أثر في نضج عقل صاحبه , وعمق نظره , واتساع رقعة فكره الإدراكية , فليس هناك حاجة حضارية تدعو إلى التحلي به , إلا إذا قدر على تحرير الإنسان من أميته الفكرية , كما استطاع أن يحطم أغلال أميته التقليدية الأبجدية , إذ ما فائدة تحقيق الوسيلة الحضارية [ تعلم القراءة والكتابة ] دون تحقيق هدفها النبيل [ النضج الفكري ] ؟! " ـ
أحسست بشيئ من المبالغة عندما قرأت احصائية تقول أن نسبة القراءة عند الشاب العربى 6 دقائق فى السنة فى حين هى 36 ساعة عند الشاب الغربى .. وكلاهما مصيبة
بيد أننى أعتقد أن النسبة ترتفع عند الشباب المهتمين بالسياسة سواء فى الحركات الشعبية والاسلامية أو الأحزاب بالاضافة الى بعض افراد الجماعات التى تهتم بالعلم الشرعى ( الدينى ) ـ
وكعادتى .. حاولت أن أبحث فى الأصول النفسية والدوافع الانسانية لهذه الظاهرة ـ فى محاولة لمعالجة الجذور ـ فوجدت تحليلات عدة , وكلها تحتاج الى تفصيل خاص ودراسة متأنية .. لكنها اشتركت فى نقطة مهمة وهى أن : ـ
ــ " القراءة عادة متمكنة داخل الإنسان تنشأ من الداخل مثل عادة تفريش الأسنان أو لبس معين أو لهجة معينة أو أكلة معينة .. لذلك تجد أن من الناس من يقرأ بنهم ويستمتع بالقراءة ومن الناس من يجاهد نفسه على القراءة وربما بدأ بكتاب أو اثنين ولم ينهه , ومنهم من يكره القراءة .. وبالتالى تلعب الدرجة الثقافية للأسرة دورا رئيسيا في وعي الأبناء وطريقة تفكيرهم " ـ
على أية حال يبقى المرء مندهشاً من أننا وصلنا الى درجة مناقشة أسباب ضعف الثقافة والأمية الفكرية , فى حين أنه كان من الأولى أن نناقش مشكلة القراءة السطحية والغير عميقة وغياب النقد البناء والتحليل العميق وقراءة ما وراء الحدث ,, لكن الذى هدم فى سنين لن يبنى فى يوم ومالا يدرك كله لا يترك جله .. ولا يحق لنا أن نشكو ضعف الثقافة طالما لا نصبر على القراءة
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل